معرفة

من «افتراق الطرق» إلى «سلام السلاح»!

شهاداتٌ قريبة من القرار، ومذكرات قادة، وعيون شاهدٍ عاش اللحظة بين غرفة التحرير وخط الجبهة. هنا لا نحتفل فحسب… بل نفهم كيف كتب النصر سطرًا بسطر.

future عدد من أغلفة أعمال الكاتب محمد حسنين هيكل عن حرب أكتوبر، وفي الخلفية يظهر الكاتب الراجل رفقة الرئيسين الأسبقين لمصر: جمالد عبد الناصر ومحمد أنور السادات

تتحدد قيمة أي كتابٍ أو مؤلفٍ (خاصةً إذا كان يتعرض لأحداثٍ كبرى ومفصلية في تواريخ الشعوب والأمم) بما يقدمه من معرفةٍ كليةٍ وشاملةٍ مدعومةٍ بإثباتاتها وأدلتها ووثائقها الرسمية وغير الرسمية… وعلى مدى اثنتين وخمسين سنة (منذ اندلاع الحرب في الثانية ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973، وحتى وقف إطلاق النار النهائي في 25 أكتوبر 1973) والكتب والمؤلفات التي تسعى للإحاطة بهذا الحدث الضخم، تأريخًا وتوثيقًا، تسجيلًا وتدوينًا، تحليلًا ودرسًا، أثرًا وتأثيرًا… إلخ، ما زالت تترى حتى وقتنا هذا!

مذكرات القادة: حين يكتب صناع الحدث

والحقيقة أن من بين ركام الكتب التي صدرت خلال نصف القرن المنصرمة، يمكننا استصفاء وانتقاء مجموعةٍ مختارةٍ منها ما زالت تحتفظ بقيمتها وتتجدد مع مرور الزمن، خاصةً بما تحمله من قيمةٍ مضافة؛ إما لأنها صدرت عن صنّاع الحدث والمشاركين فيه، على مستوى التخطيط والإعداد والقيادة؛ ومن هذا النوع كتب مذكرات قادة أكتوبر العظام (الفريق الشاذلي، والمشير الجمسي، على سبيل المثال) عليهم رحمة الله جميعًا… وإما لأنها صدرت من كتابٍ وصحفيين ومؤرخين كانوا مقربين للغاية من صناع القرار — آنذاك — وأتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من الاطلاع على الوثائق والمستندات… ما مكنهم في النهاية من صياغة كتبهم ومؤلفاتهم التي حملت توثيقًا حيًّا من نوعٍ خاص، فضلًا على انفراد بعضهم بأسلوبيةٍ خاصةٍ وجماليةٍ لا يخفت بريقها مهما مرت السنوات وتوالت العقود!


ومنذ تفتحت عيني على بطولات أكتوبر واحتفالات النصر شكلت «علامات أكتوبر» (إذا استخدمنا المصطلح السيميوطيقي الشهير) ركنًا ركينًا، وجزءًا لا يتجزأ، من تكويني ومعرفتي ونظرتي للعالم والدنيا بأسرها! قرابة الخمس عشرة سنةً وأنا أعايش الحدث الكبير من الأفلام والمسلسلات والمواد المرئية والمسموعة التي كانت تبث في الإذاعة والتليفزيون طيلة الفترة من 1981 وحتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي.

محمد حسنين هيكل شاهد عيان على التاريخ

وقد أشرت في مقال سابق إلى نماذج من الكتب الأولى التي تعرفت من خلالها على بعضِ تاريخ حرب أكتوبر وتفاصيلِها الحية التي تبث حماسةً وفخرًا ومجدًا إلى يوم الدين! حتى ذلك الوقت لم أكن اكتشفت — بعد — كتب ومراجع الأستاذ محمد حسنين هيكل؛ ذلك الرجل الذي مهما اختلفت معه أو عارضته فإنك لا تملك الاختلاف حول قيمته، وقيمة تحليلاته وعظم الأدوار التي مارسها؛ صحفيًّا ومسئولًا ومقربًا من دوائر صنع القرار على أعلى مستوى في البلد.

كل ذلك فضلًا على ما لعبته الأقدار وجعلته شاهد عيانٍ ومشاركًا في الأحداث الجسام التي شهدتها مصر خلال الفترة من 1957 (التي تولى فيها رئاسة تحرير الأهرام) وحتى فبراير 1974 تاريخ خروجه من (الأهرام). فمنذ العام 1995 اكتشفت طبعات الأهرام (عن مركز الأهرام للنشر والتوزيع) من كتب الأستاذ هيكل، وبخاصة رباعيته الضخمة (ملفات السويس — سنوات الغليان — الانفجار 67 — أكتوبرُ 73) فأقبلت عليها ألتهمها التهامًا، وتوقفت عند الجزء الرابع منها وهو المعنون «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» الذي يؤرخ فيه لوقائع حرب أكتوبر 1973، مقدماتها والإعداد لها، أسبابها ونتائجها، وأسلوب إدارتها وما تخللها من وقائع ومفارقات وتحديات… إلخ.


وأكذب لو قلت إنني قد استوعبت كل ما أورده هيكل في كتابه المرجعي الضخم (يقع فيما يزيد على أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، ومتخمٍ بالوثائق وصور المستندات السرية)، من معلوماتٍ وتحليلاتٍ واستنتاجاتٍ ومقارنات! اقتضى الأمر عدةَ سنواتٍ أخرى من القراءة، ومعاودة القراءة، والتركيزِ أثناء القراءة، لفهم واستيعاب الحقائق أولًا، ولإدراك السياق الكلي والشامل على مسرح الشرق الأوسط؛ سياسيًا واقتصاديًا في اللحظة التي اندلعت فيها الحرب، وثالثًا بحث النتائج بعد تحليل العلاقة بين إدارة الحرب على المستوى العسكري، وإدارتها على المستوى السياسي. ولم يكن ذلك هينًا أو بسيطًا، وكان يستحق تمامًا تلك السنوات التي أنفقتها في القراءة والفهم والإدراك.

جمالية الكتابة الهيكلية

كتب هيكل الضخمة كانت شأنًا آخر، ومذاقًا آخر، ومتعةً أخرى حقيقية، بما تحمله من تأملٍ وروية، وبما تطرحه من تحليلاتٍ نافذة، واستشهاداتٍ موثقة، وبما تنفتح عليه من تعدد مستويات القراءة والتلقي والتفكير. فإذا أضفنا إلى ذلك كله جمالية الكتابة الهيكلية (نسبةً إلى هيكل) بكل لوازمها الأسلوبية وتضميناتها التصويرية وحضورِ المجاز والتناص… إلخ، فإننا بإزاء قراءةٍ نصيةٍ فريدةٍ ولا تتكرر كثيرًا! وفي ظني، فإنه لا يمكن لمن أراد الإحاطة بالمشهد ككل — في الفترة التي سبقت الحرب (فترة الاستعداد والتخطيط واتخاذ القرار والإعداد) وحتى تداعياتها إيجابًا وسلبًا على المسارين السياسي والاقتصادي — أقول لا يمكن لمن أراد الإحاطة بهذه الفترة الدقيقة جدًّا ويومياتها المتخمة بالأحداث الجسام والقرارات المصيرية في كل دقيقة، بل في كل ثانية، أن يغفل أبدًا كتابي هيكل المرجعيين «عند مفترق الطرق — ماذا حصل فيها وماذا حصل بعدها؟»، و«أكتوبر 73 السلاح والسياسة». يمكن القول إن كتاب «عند مفترق الطرق» هو الجزء الأول أو التمهيد الضروري واللازم لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة». وهو كتابٌ مهم للغاية ولم ينل الشهرة التي يستحقها مثل «أكتوبر 73: السلاح والسياسة».


الكتاب الأول «عند مفترق الطرق» تضمن تحليلات اللحظة وتحليلاتٍ طازجة لما يدور على الأرض من معارك، وقراءة المناورات واستراتيجيات الكر والفر، وفيه أيضًا سمة التسجيل الآني للأحداث بسخونتها وسيولتها والانغماسِ الكامل في التفاصيل والجزئيات والبحث عن المعلومات… إلخ. إنه الكتاب الذي يقول عنه هيكل بالحرف الواحد:

«هذه المجموعة من الأحاديث لها عندي منزلةٌ خاصة، فلقد كانت مفترق الطرق بين الراحل أنور السادات — يرحمه الله — وبيني. كانت آخر ما كتبت ونشرت في (الأهرام)، في الفترة ما بين 5 أكتوبر 1973 وحتى أول فبراير 1974. أي إنها سبقت بدء عمليات حرب أكتوبر بيومٍ واحد، ثم توقفت بعد إتمام الاتفاق المبدئي على فك الارتباط الأول بأسبوعٍ واحد… مسافة أربعة شهور كانت حاسمةً وفاصلةً في تأثيرها — ليس فقط على مستوى تاريخ الشعب المصري، وأمته العربية — ولكن أيضًا على المستوى الشخصي والمهني».

أما الكتاب الثاني «أكتوبر 73»؛ فهو كتاب التأريخ الشامل والواسع، بعد أن انتهت الحرب وانقشع الغبار والنثار، وتجلت النتائج إن سلبًا وإن إيجابًا على مصر وإسرائيل والشرق الأوسط والعالم كله! إن قراءة كتب هيكل — أو بالدقة كتابيه عن حرب أكتوبر — تجعلك تقف كثيرًا وطويلًا أمام ذلك الحدث الكبير! اسمع معي (ولا أقول اقرأ معي!) ما يقوله في صدر كتابه «عند مفترق الطرق»:

«وسمعت من الفريق سعد الشاذلي القصة الكاملة للقلب والعقل المصري، واقفًا وجهًا لوجه أمام مشكلة العبور من الدقيقة الأولي في المسئولية إلى الساعات التي أصبح فيها العبور ملحمةً بطوليةً من أمجد ما شهد تاريخ مصر وتاريخ العرب… مشيت على الجسر من الغرب إلى الشرق فوق القناة… ورحت أنقل البصر من الجسر إلى مياه القناة تتدفق في هدوء ما بعد العاصفة، إلى الساترِ الترابي الضخم الذي حوله العدو إلى سدٍّ دفاعي، إلى المواقع الحصينة الرابضة عليه من بقايا خط بارليف، إلى الثغرات في هذا السد فتحتها قواتنا المسلحة مدخلاً إلى الأرض المقدسة. وأحسست أن مشيتي علي الجسر في هذا الجو خشوعٌ للحب والبطولة… صلاةٌ للحب والبطولة!»

(«في مفترق الطرق»؛ محمد حسنين هيكل في حديثه عن الفريق سعد الشاذلي).

كانت عاصفة برقٍ ورعد، وكانت ملحمة شجاعةٍ وتضحية، وصدق هيكل فيما وصف وشخص! كانت صفحة القناة نارًا ودمًا لكن الرجال لم يترددوا، ويوم تكتب القصة الكاملة لطلائع العبور التي اجتازت القناة — وسط الصواعق — في قوافل من قواربِ المطاط لتمهد لإقامة الجسور على الضفة الشرقية — فإن أمةً بأسرها سوف تشعر بأنها عاشت لحظةً من أعظم لحظات حياتها. لقد انطلقت الكتائب والألوية والفرق تشقُّ طريقها وسط الخطر إلى الضفة الأخرى، وعبرت أجزاءٌ ضخمةٌ من هذه التشكيلات فعلًا إلى الضفة الشرقية، ولم تكن جسور العبور قد تم تركيبها.

كان بالرجال شوقٌ إلى الانطلاق. كانوا يشعرون أنهم تحملوا بما لا طاقة لهم به، وبما لا ذنب لهم فيه، وقد أحسوا بالجرح في أجسادهم وفي جسد مصر، وكأنهم أرادوا أن يؤكدوا، بما لا يدع مجالًا للظن، قدرتهم على القتال واستعدادهم له. وفي ثلاث ساعاتٍ من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، ما بين الثالثة إلى السادسة مساءً، كانت مصر، وكانت الأمة العربية كلها، قد اجتازت حائط الخوف!

(وللحديث بقية)…

# حرب السادس من أكتوبر # تاريخ مصر

من الحرب النفسية إلى الخداع الاستراتيجي: جمال حمدان عن أكتوبر 73
52 عامًا للعبور من «العاطفي» إلى «المعرفي»: خواطر «أكتوبرية» من دفتر السيرة
أنور الجندي يكتب: حرب رمضان من خلال المؤلفات العربية الحديثة

معرفة